تؤكّد هاناتو يوسف ممسكةً بقميص أبيض ممزّق قائلة: "إنّ هذا القميص أنقذ حياتي. عندما هربت للنجاة من جماعة بوكو حرام، كان صدري مكشوفاً كما أنّني كنت حافية القدمين وأطفالي أيضًا. لم يكن لديهم ملابس وكان الجو شديد البرودة في ذلك الوقت. في الغابة كنّا ننام على الأرض. حين وجدت هذا القميص ارتديته مباشرة. لقد ساعدني على الشعور بالأمان".
اضطرّت الأسرة للفرار بشكلٍ مفاجئ، وبالتالي لم يكن لدى أي فرد منها الوقت الكافي لارتداء الملابس عندما فاقوا من سباتهم في ذلك المساء الحار للفرار. وبينما كانت عائلتها تفتقر إلى الملابس، كان الآخرون يعانون من العكس، محاولين إزالة القمصان والسراويل الإضافيّة للتمكّن من الركض إلى بر الأمان بسرعة أكبر، كما توضّح هاناتو، ما سمح العثور على ما يمكن ارتداؤه.
على الرغم من أنّ تغطية صدرها المكشوف جعلها تشعر بأمان أكبر في مواجهة جماعة بوكو حرام المسلّحة إلا أنّ هذه الأخيرة نجحت في احتجازها وأطفالها.
"بعد أن أمضينا أسبوعًا لدى جماعة [بوكو حرام]، لم يبقَ أي شكل من أشكال المعاناة لم نواجهه. تقول هاناتو متأسّفة: لم نحصل على الطعام، لم يكن هناك مكان للنوم. كان علينا أن نقوم بتنظيف الأرض من الأوساخ بأيدينا للنوم عليها. خلال النهار، كان يطلَب منّا الجلوس محاطون بأسلحتهم ".
تمّ إطلاق سراح هاناتو، لكنّ جماعة بوكو حرام احتجزت ابنتها لمدة شهر. "كانت في العاشرة من عمرها عندما تمّ اختطافها. حتى أنهم ضربوها عندما انتشلوها واستمروا في ضربها". لحسن الحظ ساعدتها امرأة على التسلل وجمعت شملها مع والدتها. تستعرض هاناتو بانزعاجٍ واضح هذه الذاكرة الحلوة المريرة فتقول: "لقد كانت مغطاة بالكدمات والجروح عندما عادت إليّ".
تم نقل الأم البالغة من العمر ٣٧ سنة وابنتها وأطفالها الثمانية الآخرين في سيارة إلى مايدوغوري بعد بضعة أيام من قبل مسؤولين حكوميين. على الرغم من أنّ المدينة هي مسقط رأس بوكو حرام وعاصمة بورنو التي تعدّ بؤرة النزاع في نيجيريا، في عامه التاسع اليوم، تقدّم مايدوغوري أماناً نسبيّاً، ومخيمات تحتوي على سلسلة من الخيم والأقمشة المشمّعة للعائلات النازحة، والمساعدات الإنسانية من المنظمات الوطنية والدولية.
تقول هاناتو: "لم أكن سعيدة في كلَي المخيّمَين اللذين سكنّا فيهما"، مضيفة أنّه في المخيّم الثاني الذي مكثت فيه مع أطفالها على مدار العامين الماضيين، لا تتوفر أراضي زراعية وحوالي ٢٠٠ نازح يسكنون عقاراً بحجم ملعب كرة قدم.
"عندما أفكّر في الحياة التي كنّا نعيشها، أبدأ بالبكاء. يبلغ ابني الأصغر غابرييل أربع سنوات وابني البكر عشرين سنة. وهذه روزَلين. إن افتكر أطفالي كلّ ما دمرّته جماعة بوكو حرام لفقدوا صوابهم. قامت إحدى الكنائس بدعم أطفالي الأصغر سنّاً للذهاب إلى المدرسة، وهم غادروا اليوم بعد أن تناولوا القليل من العجين المقلي. عند عودتهم إلى المنزل، لن يتوفّر أي طعام لأقدّمه لهم. في بعض الأحيان، نبقى أسبوعًا واحدًا نأكل الدقيق والسكّر".
تتذكّر هاناتو بعطفٍ قائلة: "في بلدتنا في باغا، كنت أقوم بالزراعة مع زوجي. فنزرع الفاصوليا، الذرة، البصل، الفستق، البامية، قمنا بزراعتها جميعها على أنواعها. لم نشعر بالجوع. كانت الأسماك في كلّ مكان".
"كنّا نأكل ونشرب ولدينا أيضًا متجراً لبيع البقالة. قمت بدفع أجر للعمّال ليديره حتى يتسنّى لي الوقت للاهتمام بالمزرعة. وإن جاء أحدٌ لزيارتنا، فقدّمنا له [طعاماً] للطهي. منذ قدومنا إلى هنا كمهاجرين قبل ثلاث سنوات، ليس لدينا القدرة على تحمّل تكاليف شراء الطعام. إذا لم يتمّ إعطاؤنا طعامٌ نأكله، فإننا نعيش في حالة جوع".
"أصلي من الكاميرون على الرغم من أنني عشت مع زوجي النيجيري في باغا لمدة ١٢ عامًا. لا أعرف أحداً في مايدوغوري. أقاربي غير موجودين هنا لمساعدتي. كذلك الأمر، لا يمكنني القول أنّ أقارب زوجي يساعدونني. لا يسعني إلا أن أرجو العطف من الغرباء؛ أنّ الله قد يحثّ أحدهم على مساعدتنا - فينظر إلينا ويقول، "خذي هذا [الطعام] وقومي بتحضيره لأطفالك".
"البعض من أطفالي يتمتّع بصحة جيدة ولكن ليس جميعهم. لقد رأيت ابني. كان مريضا لمدة ثلاثة أيام. لو كنت أملك المال لما كنت رأيته جالساً هنا - لكنت أخذته إلى المستشفى. حالما يتحسّن، يمرض طفل آخر. وأنا لا أشعر ايضا بأنني بخير. إذا نظرت جيّداً إليّ، عرفت أنّني بالكاد أتناول الطعام: أجلس مُنحنية لأنّ معدتي فارغة".
"كانت حياتنا سابقاً مختلفة للغاية؛ فيحضر لي زوجي صناديق مليئة بالأسماك. كنّا نطهي طعامنا دون أن نعاني من أي صعوبة. وكان زوجي على قيد الحياة وبصحة جيدة. لقد توفّي هنا. لم نراه أبداً مريضاً من قبل. بمجرد أن استلقى، لم يستيقظ مجدّداً. لقد مرّت سنة على وفاته. ولديّ أطفال. ولا يوجد طعام لهم".
تنام هاناتو وأطفالها التسعة وحفيداها على الأرض في مسكنٍ قاموا ببنائه من صفائح للجدران والعصي وقطع من القماش المشمع وملابس رثّة للسقف. يعيشون بين عائلات نازحة أخرى في ساحة رملية قدّمتها لهم كنيسة محلية في مايدوغوري. تقول هاناتو إنهم جميعًا على وفاق - "نحن جميعًا نعاني. فلماذا نتقاتل؟ لا نعرف ما علينا فعله. إن تذكرنا السعادة التي شعرنا بها وعشناها في باغا، نجتمع سويّة في بقعة مظلّلة. إن استمرّينا في التفكير [في الماضي]، بدأنا جميعنا بالبكاء".
"حتى لو لم يكن هناك طعام، كان [زوجي] يذهب ويشتري بعضًا منه من المال الذي يجنيه كعامل. إذا دخلت الغرفة حيث ننام، ترى فتحات في السقف. في موسم الأمطار، لا ينام أي منا هنا ليلاً. نجلس مستيقظين طوال الليل عند هطول المطر، ننتظر أن يتباطأ حتى نتمكن من تفريغ الماء من داخل المسكن حيث تجمّعت. لو كان [زوجي] على قيد الحياة، لكان عرف ما عليه فعله وكيف يمكن وقف تسرّب المياه. أبكي كلّ يوم وأشعر بالمرض على الدوام". "كان يسألنا زوجي: ماذا سنفعل؟ وكنت أجيبه: أفضّل الموت على هذه المعاناة ؛ لا طعام ولديّ أطفال. فيتابع قائلاً: إذا متِّ فسوف أعاني أكثر، ولكن ماذا يمكن لنا أن نفعل؟ لا عمل". وبعد كلّ هذا، تغادرني وأنا أسير على خطاه. لا يزال العالم مكاناً صعبًا للغاية. لا يوجد أي استقرار، فبماذا أفكّر؟ أفكّر ... هل أّن الموت سيأتيني لاحقا؟ أنا في انتظار أن أموت".
هاناتو بالكاد تتماسك. تبتسم وهي تجلس وتلعب مع كلبهم غامشي، في بقعة صغيرة قامت بتسييجها حول منزلها المؤقت. أحد أبنائها الأكبر سنّاً يقوم بتربية الدجاج فيها رغم أنّها على يقين أنه لا يمكنهم تحمّل تكلفتها. وتقول هاناتو أنّها أرادت أن يكون لديه ما يعتني به.
كالعديد من الأمهات، تبذل قصارى جهدها لمساعدة أطفالها في واجباتهم المدرسيّة، وتجلس مع ابنها الذي لا يزال يرتدي زي مدرسي ذو مربّعات، لقراءة تمارين الرياضيات. تشرق الشمس من خلال الشقوق في السياج الذي صنعته يدويًا من القش، وتنقّط وجوههم بأشعّة الضوء. تجد هاناتو في تلك اللحظات الهدوء في حياة أصبحت مرهقة للغاية للأم الشابة التي فقدت زوجها ومنزلها وسبل عيشها. فهم لا يعرفون متى سيصبح الوضع آمناً بما يكفي للعودة إلى بلدتهم المحبوبة، باغا.
تتمسّك هاناتو أيضًا بالشيء الوحيد الذي ما زالت تملكه من باغا: ذلك القميص القطني الكبير الممزق الذي يحمل شعار شركة محلية للمبيدات الآفات مكتوباً باللون الأبيض بتفاصيل حمراء وخضراء اللون.
تقول هاناتو وهي تطوي القميص برقّة لتضعه في كيس قديم من القماش: "الآن، أصبح القميص مهترئاً، عليّ أن أرميه في النار كما أفعل بالملابس القديمة الأخرى، لكنني لن أفعل ذلك لأنه يشعِرُني بالأمان. إنّه بمثابة زوجي. سأحتفظ بهذا لأطفالي كجزء من تاريخنا يوم هربنا [عراة]. سأخيطه داخل غطاء وسادتي حتى أحتفظ به دائمًا. لن ألقيه في أي مكان حتّى لا يلعب به الأطفال".
وتضيف بابتسامة عريضة لم تبرز على وجهها حتّى الآن: "كلما خطر في بالي، ذهبت وأحضرته. أقوم بارتدائه لأنه القميص الذي أنقذني من الخطر. لن أنساه أبداً".